بسم الله الرحمن الرحيم
وقفة مع حديث
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح (1) فاصنع ما شئت (2)" .
منزلة الحديث :
تكمن أهمية الحديث بدعوته إلى خلق الحياء، الذي هو من الإيمان ، والحياء لا يأتي منه إلا الخير، والحياء يدعو صاحبه للتحلي بالفضائل ، والبعد عن الرذائل والحياء خلق أنبياء الله وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان أشد حياء من العذراء(3) في خدرها(4) . الحياء خلق ملائكة الله ، قال صلى الله عليه وسلم : "ألا، أستحي من رجل تستحي منه الملائكة"(5)، خلق الحياء الدعوة إليه قديمة.
من إرث أنبياء الله:
قوله صلى الله عليه وسلم : "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى" يعني أن هذه الحكمة النبوية العظيمة، الداعية إلى الحياء، مما توارثه الناس عن أنبيائهم جيلا
بعد جيل ، حتى وصلت إلى أول هذه الأمة المحمدية .
فمما دعا إليه أنبياء الله السابقين العباد التخلق بخلق الحياء، وهنا تزداد أهمية هذه الحكمة العظيمة التي أمرنا رسولنا أن نتخلق فيها.
معنى الأمر في الحديث :
قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا لم تستح فاصنع ما شئت " للعلماء في مفهوم أمره صلى الله عليه وسلم أقوال منها :
1- الأمر للتهديد والوعيد، فيكون المعنى إذا لم يكن عندك حياء فاعمل ما شئت فإنك معاقب مجازى على صنيعك ، وقد يكون في الدنيا أو الآخرة أو في كلاهما. وقد ورد في الذكر الحكيم مثل هذا السياق قال تعالى : ( أعملوا ما شئتم *(6).
2- الأمر للإباحة، فيكون المعنى إذا أقدمت على أمر فلم تستح من صنيعه من الله ولا رسوله ولا الناس فافعله ، فإنه يباح لك ذلك قال النووي : الأمر فيه للإباحة أي إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله وإلا فلا"(7) . 3
3- الأمر للإخيار، فيكون المعنى أن المانع من فعل ما يشين العبد هو الحياء، فمن فقده انهمك في معاصي الله عز وجل .
ومثل ذلك قوله "فليتبوأ مقعده من النار"(
فالأمر هنا أي تبوأ مقعده من نار جهنم وهنا كلام جميل للخطابي ونصه : "الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث إن الذي يكف الإنسان عن موافقة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعا بارتكاب كل شر"(9).
الحياء ضربان :
1- الحياء الغير مكتسب وهو ما كان فطرة وجبلة يمن الله به على من شاء من عباده ، وهو من أعظم النعم التي يجود بها الباري على من شاء من عباده ، لأنه لا يأتي إلا بالخير للعبد، قال صلى الله عليه وسلم : الحياء لا يأتي إلا بخير"(10) فنرى كثيرا من الناس يكف عن القبائح والمعاصي ، وقد لا يكون ذلك تدينا، قال بعضهم : رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة .
2- الحياء المكتسب : من معرفة الله وصفاته العظيمة الجليلة ، وإنه رقيب على عبادة لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا الحياء المكتسب من معرفة الله هو من خصال الإيمان ، ظ ل قال صلى الله عليه وسلم "دعه فإن الحياء من الإيمان "(11) قال القرطبي : الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان وهو المكلف له دون الغريزي غير أن من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب (12) إذ سلب العبد الحياء المكتسب وغير المكتسب ، لم يبق له ما يمنعه من الولوع في القبائح والمعاصي، ويصبح العبد شيطانا رجيما يمشي على الأرض بجثة آدمي نسأل الله السلام .
الحياء المذموم :
قال، عياض وغيره : "والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا بل هو عجز ومهانة، وإنما يطلق عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي "(13) فالحياء الذي يؤدي بصاحبه في التقصير في حقوق الله ، فيعبد الله على جهل ولا يسأل عن دينه ، ويقصر في القيام بحقوقه ، وحقوق من يعول ، وحقوق المسلمين فهذا الحياء مذموم لأنه ضعف وخور.
المرأة والحياء:
قال تعالى : (( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير)) (14) رأى موسى عليه السلام هاتين البنتين وهما على مستوى سامي من الخلق القويم ، فهن لا يزاحمن الرجال ، ويكفكفن غنمهما أن ترد مع غنم الرعاء لئلا يؤذيا .
كما فيه دلالة على أن هاتين الفتاتين خرجتا من بيت رباهما فأحسن تربيتهما بيت عظيم يعظم العفة والحياء.
وعندما استفسر موسى عن وضعهما بينتا له سبب خروجهما، وهو كبر سن ولديهما وهذا هو سبب الخروج من الخدر.
فقام موسى عليه السلام بالواجب وسقا لهما .
ثم تابع القرآن القصة معه فجاءته (( إحدهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا)) (15) بين لنا القرآن ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من خلق وحياء ، فوصف لنا مشية هذه الحرة الشريفة مشية عنوانها الحياء والنقاء والطهر، قال أمير المؤمنين عمر : كانت متسترة بعم درعها"(16) .
كما بين لنا كيف تخاطب المرأة الرجال الأجانب ، فلا خضوع بالقول ولا رقة ولا وقاحة، لذلك اختار الله لنبيه موسى إحداهما زوجة له ، قال تعالى : (( الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات )) (17).
وهكذا يجب على ولي الأمر، أن يربي بناته على الحياء، لأن الحياء حلى المرأة، فإذا خلعته خلعت معه كل فضيلة .
لقد كن الصحابيات القدوة في هذا الميدان ، فينبغي أن يقتدى بهن ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح (18) وغير فرسه . فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربة وأعجن ، ولم أكن أحسن أخبز فكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال : إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم !ذ أني قد استحييت فمضى(19) والشاهد في هذا قول أسماء "استحييت أن أسير مع الرجال " استحت أن تسير مع هؤلاء الرجال الأطهار وعندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا منها أقرها عليه وشجعها عليه فيجب على بنات المسلمين أن يقتدين بهؤلاء الصحابيات فهن القدوة المنجية من مهاوي الردى .
فوائد من الحديث :
1- يدل الحديث على أن الحياء كله خير، ومن كثرحياؤه كثرخيره وعم نفعه ، ومن قل حياؤه قل خيره .الحياء الذي يعوق من التعليم وطلب الحق حياء مذموم
2- الحياء الذي يعوق من التعليم وطلب الحق حياء مذموم
3- واجب على ولي الأمر أن يسعى لغرس خلق الحياء في أبنائه
4- من فوائد الحياء العفة والفاء
5- يقابل الحياء الوقاحة ، وهي خصلة مذمومة تدعو صاحبها إلى فعل الشر، والانغماس فيه ، والمجاهره بالمعاصي ، قال صلى الله عليه وسلم : (( كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) (20).
6- والحياء من شعب الإيمان الواجبة