الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : فقد سبق لنا في الحلقة السابقة بعض الأحاديث التربوية في مجال الإنفاق في سبيل الله تعالى .
ومما جاء أيضا في فضل الصدقة ما أخرجه مسلم بن الحجاج رحمه الله من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله, ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه ([1]) فلا يرى إلا ما قدم , وينظر أشأم منه ([2]) فلا يرى إلا ما قدم , وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه , فاتقوا النار ولو بشق تمرة " ([3]) .
وهكذا حينما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أهوال يوم القيامة يجعل الصدقة في مقدمة الأعمال التي يقي الله جل وعلا بها صاحبها من النار .
وفي هذا الحديث يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ولو بالقليل من أموالنا , فإن القليل مع القليل كثير , فلا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى قلة ما عنده فيحجم عن الصدقة, فلو أن مائة من الناس لا يستطيع كل واحد منهم أن يتصدق إلا بدرهم فإن مجموع صدقتهم مائة درهم, فهؤلاء يعادلون غنيا يستطيع أن يتصدق بمائة , ولو نظرنا إلى الأغنياء لوجدنا أن عددهم قليل جدا بالنسبة لأفراد المجتمع , فلو فرضنا أن مجتمعا عدد أفراده مائة ألف فإن الواحد منهم لن يعجز عن الصدقة بدرهم في الغالب فيكون مجموع صدقتهم مائة ألف درهم , لكن لو احتقر كل واحد منهم ما عنده من المال فلن يتكوَّن هذا المبلغ الكبير .
وبهذه الطريقة الجيدة في البذل يمكن لكل مجتمع أن يواسي فقراءه وأن يقوم بإنشاء المشاريع الخيرية التي يستفيد منها كل أبناء المجتمع , لكن حينما تكون الأنظار موجهة نحو الأغنياء فقط فقد لا يتوافر منهم المبلغ الكافي لسد حاجات المجتمع وإنشاء المشاريع الخيرية .
ومن ذلك ما أخرجه أبو عبد الله البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين" ([4]) .
فهذا مثال للكمال في التعامل مع المال , فإن إنفاق ما زاد عن الحاجة ليس واجبا في الإسلام, لكنه يمثل الكمال في سياسة تصريف المال , حيث يقدم به صاحبه عملا صالحا كثيرا يدخره لنفسه يوم القيامة حينما يظهر ثواب العمل الصالح .
ومن ذلك ما أخرجه أبو عبد الله ابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأكثرون هم الأسفلون إلا من قال هكذا وهكذا" ثلاثا .
وقال البوصيري : إسناده صحيح ([5]) .
فالأكثرون مالاً يريدون أن يكونوا هم الأعلون في الدنيا , اعتزازًا بأموالهم , لكنهم في الآخرة هم الأسفلون ما لم يستقيموا على هدي الإسلام , فيحاسبوا أنفسهم على كسبهم ليكون حلالا , ثم ينفقوا من أموالهم في وجوه الخير والبر , فإذا فعلوا ذلك حموا أنفسهم من الحرام وقدموا لها عملا صالحا يرفع من مقامهم يوم القيامة .
ومن ذلك ما أخرجه أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصَل بين الناس- أو قال: يحكم بين الناس – " ([6]) .
فهذا ترغيب بليغ في الصدقة , فلو أن إنسانا طُلب منه أن يدفع مبلغا من المال مقابل تظليله من الشمس في يوم شديد الحرارة لسارع إلى دفع ذلك المال , فكيف بشمس الآخرة حينما تدنو من الخلائق فتكون على قدر ميل ؟!
ومما يزيد في الترغيب في الإنفاق ماجاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينـزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([7]) .
وهل يشك أحد في أن الله تعالى سيستجيب دعاء هذين الملكين عليهما السلام , وإنه لشرف كبير للمنفقين أن يكون الملائكة عليهم السلام معهم بالدعاء , وخسارة كبرى أن يكون الملائكة على الممسكين عن الإنفاق بدعائهم .
وهل إخفاء الصدقة أفضل أم إعلانها ؟
الأصل أن إخفاء الصدقة أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله .. ثم ذكرهم إلى أن قال : "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه" أخرجه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ([8]) . ولقوله صلى الله عليه وسلم " عليكم باصطناع المعروف فإنه يمنع مصارع السوء وعليكم بصدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب عز وجل" أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ([9]) . وذلك في غير الحالات الخاصة التي يستحب فيها إعلان الصدقة مثل ما إذا أصابت المسلمين جوائح وأراد الإنسان بإظهار الصدقة أن يكون قدوة لغيره , أو فيما إذا دعا الإمام للصدقة بشكل معلن .
ولقد كان الصالحون على مر الأجيال يحرصون على إخفاء صدقتهم لما ذُكر من هذا الثواب الجزيل , ومن الأمثلة على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من خبر شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يُبَخَّل , فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة , كما أخرج من خبر أبي حمزة ثابت الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الجراب فيه الخبز , ويقول : إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب عز وجل ([10]) .
ولئن كان قد فات ابن الحسين رضي الله عنهما ماكان يعمل له بعض الناس في الدنيا من جاه وسمعة فلقد ظفر بجاه الآخرة وسمعتها , وشتان ما بين الدارين .